19 فبراير 2025

دور تدفقات رؤوس الأموال في تشكيل النظام الاقتصادي العالمي

شاعت في الآونة الأخيرة مصطلحات مثل "تعددية المراكز” و “تعددية الأقطاب“ لتوصيف التغيرات الجذرية التي يشهدها عالمنا المعاصر. ولا يقتصر التحول المستمر نحو نظام عالمي جديد على الجانب الجيوسياسي فحسب، بل يمتد ليشمل أبعاداً اقتصادية عميقة تؤثر بشكل مباشر على تدفق رؤوس الأموال والتجارة وتبادل الأفكار. وهذا يعني أن تعددية المراكز تسهم في خلق نظام مالي عالمي يتميز بترابط وتماسك أكبر.

تاريخياً، هيمن عدد محدود من الاقتصادات الرئيسية على تدفقات رؤوس الأموال العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، إلا أن السنوات الـ 15 الماضية شهدت تراجعاً ملحوظاً في هذا التأثير، مع تنوع واختلاف مصادر ووجهات رؤوس الأموال. وبرزت مراكز اقتصادية عالمية جديدة في آسيا وشبه القارة الهندية والشرق الأوسط لتساهم في رسم آفاق جديدة للمشهد الاقتصادي العالمي. واليوم، أصبح للعديد من الأسواق الأكثر حيوية ونمواً في العالم دور مزدوج كمستورد ومصدّر لرؤوس الأموال في الوقت نفسه. 

ما هي العوامل المحفزة لهذا التغيير؟

في الوقت الذي كانت فيه أساسيات الاقتصاد الكلي والسياسات المالية العالمية المعروفة باسم "عوامل الدفع" - والتي تقودها الاقتصادات المتقدمة - تتحكم بهذه التدفقات ، فإن الدلائل الحالية في النظام العالمي الجديد تشير إلى تنامي تأثير "عوامل الجذب" المحلية مثل النمو الاقتصادي وتطور البنية التحتية للأسواق وزيادة القدرة الاستيعابية للاستثمار.

يعد الاستقرار السياسي والاقتصادي، إلى جانب المسؤولية المالية واستقرار السياسات التنظيمية، من الركائز الأساسية لجذب المستثمرين. لكن الدول التي تتمتع برؤية مستقبلية لا تكتفي بهذه الأساسيات فقط، بل تتبنى نهجاً استباقياً لتعزيز جاذبيتها من خلال تأسيس مراكز مالية دولية ومناطق حرة وبناء شبكات استثمارية وتجارية قوية، وهي مبادرات تحفز على استقطاب رؤوس الأموال وتسهم بتعزيز قدرة هذه الدول على المنافسة في الاقتصاد العالمي. وتعد دولة الإمارات من النماذج الرائدة في هذا المجال، حيث أصبحت مراكزها المالية، مثل سوق أبوظبي العالمي ومركز دبي المالي العالمي، وجهات عالمية لمؤسسات الخدمات المالية والشركات العائلية وشركات التكنولوجيا المالية "فينتك" التي تبحث عن بيئة أعمال متميزة وداعمة.

وفي تقرير "عصر جديد من تدفقات رأس المال في عالم متعدد المراكز"، الذي أصدرته "القابضة" (ADQ) مؤخراً بالتعاون مع أسبوع أبوظبي المالي وسوق أبوظبي العالمي وبرنامج ستيرن في جامعة نيويورك أبوظبي، تستعرض مجموعة من أهم الأسماء في عالم الاستثمار هذه الظاهرة، التي بدأت تتشكل ملامحها على أرض الواقع ولكن الصورة الكاملة عنها لم تتضح بعد.

يشير التقرير إلى أنه في ظل البحث عن الموازنة بين السعي لتحقيق عوائد مرتفعة وتحمل مخاطر دخول أسواق جديدة، أصبح المستثمرون أكثر اهتماماً باقتصادات النمو. ويسرد التقرير نماذج رائدة مثل دولة الإمارات وسنغافورة، حيث أسهمت الإصلاحات الهيكلية الشاملة والتدابير الموجهة لتعزيز جاذبية السوق في تحقيق تدفقات قياسية للاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة. وبالنسبة إلى الإمارات، وضعت الدولة أهدافاً طموحة لتعزيز مكانتها كوجهة استثمارية عالمية، فهي تسعى إلى مضاعفة الاستثمار الأجنبي التراكمي المباشر ليصل إلى 354 مليار دولار، مع تحقيق رصيد إجمالي للاستثمار الأجنبي المباشر يبلغ 600 مليار دولار بحلول عام 2031. وقد أسهم هذا الدور المزدوج الذي تلعبه دولة الإمارات كمستورد ومصدّر لرأس المال في توفير بيئة استثمارية حيوية يستمر فيها الاستثمار الأجنبي المباشر في النمو بوتيرة تصاعدية.

وبالمثل، تستفيد اقتصادات النمو الأخرى، مثل ماليزيا، من تدفقات استثمارية ضخمة تعزز ازدهار قطاعاتها الإنتاجية والخدمية. ويأتي هذا النمو مدعوماً من استثمارات كبيرة من دول مثل هونغ كونغ واليابان والولايات المتحدة. 

رأس المال السيادي عامل محفز للنمو الاقتصادي

يلعب النمو السريع للثروة السيادية دوراً جزئياً في تدفق الأموال إلى هذه الدول. فقد أصبح للمستثمرين السياديين دور استراتيجي في إعادة تخصيص الأموال التي كانت تُستثمر سابقاً في الخارج، لتوجيهها نحو تحفيز التنمية الاقتصادية المحلية، بما يسهم أيضاً في خلق بيئة مواتية للاستثمار.

وتسهم الاستثمارات السيادية في تعزيز عمليات الإمداد والتوزيع بشكل استراتيجي، وبناء منصات أعمال محلية ذات امتداد عالمي، وتوسيع نطاق الصناعات الرئيسية. ولا يقتصر هذا النهج على تطوير الاقتصاد المحلي، بل يمتد تأثيره ليشمل تقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية، وجذب الاستثمارات الأجنبية الموجهة نحو القطاعات ذات النمو المرتفع والتي تُظهر إمكانات واعدة لتحقيق النجاح على المدى الطويل. وبهذا، تعمل الاستثمارات السيادية على دعم الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل، والتي تشمل تنويع الاقتصاد وتعزيز الاكتفاء الذاتي. 

تدفق رؤوس الأموال خارج الوجهات التقليدية

في ظل امتداد رؤوس الأموال إلى وجهات استثمارية جديدة، يمثل المشهد المالي العالمي المتنامي فرصة واعدة. ويمكن لاقتصادات النمو التي تنتهج استراتيجيات مدروسة للاستفادة من هذه التحولات أن تشكل ملامح المستقبل، وأن تسهم في بناء عالم أكثر ترابطاً ومرونة، وأن ترسم نظاماً عالمياً جديداً أكثر تعددية من خلال الاستفادة من مزاياها الفريدة مثل النمو الاقتصادي القوي، والبنية التحتية المتطورة، والمناخ الاستثماري الجاذب.

ويبدو أن النفوذ الاقتصادي، تحت مظلة هذا النظام العالمي الجديد، يتجه نحو التوزع عبر مناطق متعددة، بدلاً من التمركز في عدد محدود من مراكز القوى التقليدية. هذا التحول يفتح آفاقاً واسعة للشركات والمستثمرين وصُنّاع السياسات، حيث يقدم فرصة فريدة لدفع عجلة النمو المستدام الذي يمتاز بالتنوع والمرونة والقدرة على التكيف مع المعطيات الجديدة والتحولات الاقتصادية المستقبلية.

استلم آخر أخبار "القابضة" (ADQ) مباشرة في بريدك الإلكتروني

المزيد من "القابضة" (ADQ) فورورد

تجمع منصة "القابضة" (ADQ) فورورد بين خبراء الصناعة والحكومة وقادة الرأي لمناقشة ومعالجة القضايا ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية لدولة الإمارات العربية المتحدة.