الاستثمار في الذكاء الاصطناعي: نحو توازن أمثل بين المطورين والمستخدمين والبنية التحتية
في عالمٍ يتخطى فيه الذكاء الاصطناعي حدود الخيال ليُصبح واقعاً ملموساً، يُصبح التقييم المُتأنّي لخيارات الاستثمار بمثابة البوصلة التي تُوجّهنا نحو قيمة مُستدامة وتأثير حقيقي على أرض الواقع.
فوفقاً لتقرير صادر عن شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" حول الذكاء الاصطناعي، من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030 بأكثر من الناتج الاقتصادي الحالي لعملاقيْن آسيوييْن، الهند والصين.
وبينما يواصل الذكاء الاصطناعي قيادة مسيرة الابتكار في مختلف القطاعات، بدءً من الرعاية الصحية والتمويل وصولاً إلى الطاقة والتصنيع، فمن المتوقع أن يولّد قيمة اقتصادية تبلغ 15.7 تريليون دولار أمريكي، وهذا لا يعيد تشكيل مشهد الأعمال التجارية وحسب، بل يعيد تعريف نسيج القوى العاملة والمجتمع العالمي.
يجد المستثمرون أنفسهم اليوم أمام مفترق طرق: هل ينبغي عليهم التركيز على الاستثمار في مستخدمي الذكاء الاصطناعي - الشركات الراسخة التي تدمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها - أم في مُطوّري الذكاء الاصطناعي الذين يبتكرون تقنيات المستقبل؟
والواقع أن الجمع بين هذين الخيارين ليس فقط ضرورياً لضمان تحقيق قيمة طويلة الأمد للمستثمرين، بل هو أيضاً حجر الزاوية في تطوير منظومة الذكاء الاصطناعي الأوسع واستمرار تطورها.
بين مكاسب الحاضر وعوائد المُستقبل: أين يكمن التوازن؟
تتمثّل إحدى المزايا الجليّة للاستثمار في مستخدمي الذكاء الاصطناعي بتحقيق مكاسب سريعة. فوفقاً لتقرير نشرته جامعة ستانفورد حول الذكاء الاصطناعي، فإن 42% من الشركات التي تتوسع باستخدامه في عملياتها تحقق انخفاضاً في التكاليف، بينما أفاد 59% منها بتحقيق زيادة في إيراداتها. وهكذا يتضح جلياً أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد وعد مستقبلي، بل أصبح واقعاً يحقق نتائج ملموسة وعائداً مجزياً على الاستثمار.
وعلى الجانب الآخر، يُعد الاستثمار في مطوري الذكاء الاصطناعي رهاناً على المستقبل. فالتقنيات مثل المركبات ذاتية القيادة والحوسبة الكمومية على أعتاب إحداث تغييرات جذرية في الصناعات القائمة وإيجاد صناعات جديدة تماماً. ورغم أن الطريق إلى التسويق التجاريّ مُعقّدٌ، وتتخلله عقباتٌ تنظيميةٌ واختباراتٌ للسوق، إلا أن الإمكانات الإيجابية هائلة.
صحيحٌ أن حالة عدم اليقين بشأن أي من تلك التقنيات ستنجح ، ومتى ستتحقق تلك النجاحات ، تشكّل تحدياً كبيراً. لكن العوائد قد تكون هائلة ومجزية إلى حد كبير، خاصة بالنسبة للمستثمرين الذين يمتلكون الجرأة للمُخاطرة - مثل استثمارات سيكويا كابيتال (Sequoia Capital) المبكرة في نفيديا (Nvidia).
ومن وجهة نظري، تكمن الفرصة الحقيقية في تحقيق التوازن بين الاستثمار في الجانبين. ويتطلّب ذلك عملياً مواءمة الاستثمارات مع ظروف السوق ودورة حياة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وباعتبار «القابضة» (ADQ) مستثمراً سيادياً يركز على بناء القيمة، فقد شملت رحلتنا استثماراتٍ في مُطوّري الذكاء الاصطناعي بالإضافة إلى البنية التحتية. وكان تطبيق أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر محفظتنا الاستثمارية أولوية استراتيجية لسنوات عديدة. ومثل غيرنا من المستثمرين، نعمل أيضاً على موازنة تعقيدات خيارات الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لضمان جاهزيتنا للمستقبل.
وقد أصدرنا مؤخراً ورقة بحثية بالتعاون مع «إيكونوميست إمباكت» (Economist Impact)، تستكشف دوافع الاستثمار في كل من مُطوّري الذكاء الاصطناعي ومستخدميه، وأهمية التوازن بين الجانبين لتحقيق عوائد مجزية عبر منظومة الذكاء الاصطناعي.
ومن خلال فهم ديناميكيات كلٍ من مُستخدمي ومُطوّري الذكاء الاصطناعي، يستطيع المُستثمرون هيكلة محافظهم الاستثمارية لجني مكاسب فورية مع تأمين فرص نموٍ طويلة الأجل. فالمستخدمون يعتمدون على تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية، ما يتيح عوائد أسرع، بينما يمتلك المطورون مفتاح الابتكارات المستقبلية.
التأثير الفعلي للذكاء الاصطناعي على أرض الواقع: نظرة أعمق
عند البحث عن مُطوّري الذكاء الاصطناعي لأغراض الاستثمار، فمن المهم تحديد الصناعات التي تحقق أكبر استفادة من حلول الذكاء الاصطناعي. لننظر مثلاً إلى قطاع النقل والخدمات اللوجستية، حيث غالباً ما تكون هوامش ربح شركات نقل البضائع ضئيلةً، تصل إلى 2%. ووفقاً لتقرير صادر عن شركة «برايس ووترهاوس كوبرز» حول الذكاء الاصطناعي التوليديّ (GenAI)، فقد أظهرت الأبحاث أن الاعتماد الفوري على الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل تحسين مسارات النقل يمكن أن يؤدي إلى زيادة في المتوسط بنسبة 1.8 نقطة مئوية، ما قد يؤدي إلى مضاعفة الهوامش تقريباً.
وفي مجال الخدمات العامة، يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مجال تحلية المياه. فمن خلال استخدام الخوارزميات التنبؤية، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين كفاءة محطات التحلية، والتنبؤ باحتياجات الصيانة، وخفض تكاليف التشغيل - ما يؤدي إلى أنظمة إدارة مياه أكثر استدامة ومرونة يمكنها التكيّف مع الطلب المتزايد. وبالإمكان أيضاً تحقيق قيمة كبيرة في قطاع الطاقة المتجددة، إذا ما جرى استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين شبكات الطاقة وتعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة الخضراء.
ويمكن القول إنّ الزراعة هي الحقل الذي يُمكن أن يُحقق فيه الذكاء الاصطناعي بعضاً من أكثر الفوائد وضوحاً، فقد أدت الزراعة الدقيقة، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى إطلاق ثورة جديدة في أساليب الزراعة.
وفي المقابل، ورغم الإمكانات الهائلة التي يحملها الذكاء الاصطناعي لقطاع الرعاية الصحية، خاصة في البيئات السريرية، إلا أننا ما زلنا نواجه تحديات معقدة في هذا المجال، مثل العقبات التنظيمية وبطء وتيرة التغيير المؤسسي.
ومع ذلك، يُقدّم مُطوّرو الذكاء الاصطناعي، خاصة أولئك الذين يركزون على الذكاء الاصطناعي التوليدي لاكتشاف الأدوية أو تحسين عمليات رعاية المرضى، فُرصاً استثماريةً واعدة بسبب الابتكارات المحتملة التي قد تُحدث تحولاً جذرياً في هذا القطاع. وتُقدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية اليوم فوائد كبيرة في مجالات مثل تحليل الصور الطبية، ومراقبة المرضى والرعاية عن بُعد، واكتشاف الأدوية وتطويرها.
أخيراً وليس آخراً، ومع توسع نطاق المُستخدمين والمُطوّرين، يُصبح الاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعيّ - على سبيل المثال، مُوّردي الطاقة ومراكز البيانات التي تُوفّر الأجهزة المادية الأساسية لدعم نموّ الذكاء الاصطناعي - فرصةً استراتيجيةً لتلبية الطلب المُتزايد على التطبيقات التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ عبر مختلف الصناعات.
وتشير توقعات «ماكنزي» (McKinsey) إلى أن أوروبا وحدها ستحتاج إلى استثمارات تزيد عن 250 مليار دولار أمريكي في أوروبا على مدى السنوات الخمس المُقبلة. وتكمن جاذبية هذا المجال للمستثمرين في نماذج الإيرادات القابلة للنمو والمتكررة التي تتميّز بها البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، مدفوعة بالطلب طويل الأجل من التحول الرقمي في القطاعات عالية النمو التي تعتمد على البنية التحتية لدعم احتياجات معالجة البيانات الضخمة.
وثمة علاقة تكاملية بين هذه الفئات الثلاث - المستخدمين والمطورين والبنية التحتية - ومن المهم أن يُدركها المُستثمرون أثناء تقييمهم لفرص السوق وتحديد مواقعهم كمُساهمين فاعلين في نمو هذا القطاع سريع التطور.
حمد عبدالله الحمادي
نائب الرئيس التنفيذي للمجموعة في "القابضة" (ADQ)
استلم آخر أخبار "القابضة" (ADQ) مباشرة في بريدك الإلكتروني